سورة إبراهيم - تفسير تفسير أبي السعود

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (إبراهيم)


        


{وَسَكَنتُمْ} من السُّكنى بمعنى التبوّؤ والإيطان، وإنما استُعمل بكلمة في حيث قيل: {فِى مساكن الذين ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ} جرياً على الأصل لأنه منقولٌ عن مطلق السكون الذي حقُّه التعديةُ بها أو من السكون واللُّبث، أي قرِرْتم في مساكنهم مطمئنين سائرين سيرتَهم في الظلم بالكفر والمعاصي غيرَ محدّثين لأنفسكم بما لقُوا بسبب ما اجترحوا من الموبقات، وفي إيقاع الظلم على أنفسهم بعد إطلاقِه فيما سلفه إيذانٌ بأن غائلةَ الظلم آئلةٌ إلى صاحبه، والمرادُ بهم إما جميعُ مَنْ تقدّم من الأمم المهلَكة عن تقدير اختصاصِ الاستمهال، والخطابُ السابقُ بالمنذرين، وإما أوائلُهم من قوم نوحٍ وهود على تقدير عمومِهما للكل، وهذا الخطابُ وما يتلوه باعتبار حالِ أواخرهم {وَتَبَيَّنَ لَكُمْ} بمشاهدة الآثار وتواترِ الأخبار {كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ} من الإهلاك والعقوبة بما فعلوا من الظلم والفساد، وكيف منصوبٌ بما بعده من الفعل وليس الجملةُ فاعلاً لتبيّن كما قاله بعضُ الكوفيين، بل فاعله ما دلت هي عليه دَلالةً واضحةً أي فعلنا العجيبَ بهم، وفيه من المبالغة ما ليس في أن يقال: ما فعلنا بهم كما مر في قوله تعالى: {لَيَسْجُنُنَّهُ} وقرئ: {وبُيِّن} {وَضَرَبْنَا لَكُمُ الامثال} أي بينا لكم في القرآن العظيم على تقدير اختصاصِ الخطاب بالمنذَرين أو على ألسنة الأنبياءِ عليهم السلام على تقدير عمومِه لجميع الظالمين صفاتِ ما فعلوا وما فُعل بهم من الأمور التي هي في الغرابة كالأمثال المضروبةِ لكل ظالم، لتعتبروا بها وتقيسوا أعمالَكم على أعمالهم ومآلَكم على مآلهم وتنتقلوا من حلول العذاب العاجلِ إلى حلول العذابِ الآجل فترتدعوا عما كنتم فيه من الكفر والمعاصي، أو بيّنا لكم أنكم مثلُهم في الكفر واستحقاقِ العذاب، والجملُ الثلاثُ في موقع الحال من ضمير أقسمتم، أي أقسمتم بالخلود والحالُ أنكم سكنتم في مساكن المهلَكين بظلمهم وتبين لكم فعلُنا العجيبُ بهم ونبهناكم على جلية الحال بضرب الأمثالِ.


وقوله عز وجل: {وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ} حال من الضمير الأول في فعلنا بهم أو من الثاني أو منهما جميعاً، وإنما قُدّم عليه قوله تعالى: {وَضَرَبْنَا لَكُمُ الامثال} لشدة ارتباطِه بما قبله أي فعلنا، والحالُ أنهم قد مكروا في إبطال الحقِّ وتقديرِ الباطل مكرَهم العظيمَ الذي استفرغوا في عمله المجهودَ وجاوزوا فيه كل حد معهود، بحيث لا يقدِر عليه غيرُهم، فالمرادُ بيانُ تناهيهم في استحقاق ما فُعل بهم أو قد مكروا مكرَهم المذكورَ في ترتيب مبادىءِ البقاءِ ومدافعةِ أسبابِ الزوالِ، فالمقصودُ إظهارُ عجزهم واضمحلالُ قدرتِهم وحقارتُها عند قدرة الله تعالى {وَعِندَ الله مَكْرُهُمْ} أي جزاءُ مكرِهم الذي فعلوه، على أن المكرَ مضافٌ إلى فاعله، أو أخذُه تعالى بهم على أنه مضاف إلى مفعوله، وتسميتُه مكراً لكونه بمقابلة مكرِهم وجوداً وذِكراً أو لكونه في صورة المكرِ في الإتيان من حيث لا يشعرون، وعلى التقديرين فالمرادُ به ما أفاده قوله عز وجل: {كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ} لا أنه وعيدٌ مستأنفٌ، والجملةُ حالٌ من الضمير في مكروا أي مكروا مكرَهم وعند الله جزاؤه أو ما هو أعظمُ منه، والمقصودُ بيانُ فسادِ رأيِهم حيث باشروا فعلاً مع تحقق ما يوجب تركَه {وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ} في العِظَم والشدة {لِتَزُولَ مِنْهُ الجبال} أي وإن كان مكرُهم في غاية المتانةِ والشدةِ، وعبّر عن ذلك بكونه مسوًّى ومُعدًّا لإزالة الجبال عن مقارّها لكونه مثلاً في ذلك، والجملةُ المصدرةُ بأن الوصليةِ معطوفةٌ على جملة مقدرة والمعنى وعند الله جزاءُ مكرهم أو المكرُ الذي يحيق بهم إن لم يكن مكرُهم لتزولَ منه الجبال وإن كان الخ، وقد حُذف ذلك حذفاً مطرداً لدِلالة المذكور عليه دَلالةً واضحةً فإن الشيء إذا تحقق عند وجودِ المانعِ القويِّ فلأن يتحققَ عند عدمِه أولى، وعلى هذه النُكتة يدور ما في أن الوصليةِ من التأكيد المعنوي، والجواب محذوفٌ دل عليه ما سبق وهو قوله تعالى: {وَعِندَ الله مَكْرُهُمْ} وقيل: إنْ نافية واللامُ لتأكيدها كما في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ الله لِيُعَذّبَهُمْ} وينصره قراءة ابن مسعود رضي الله عنه وما كان مكرُهم، فالجملة حينئذ حالٌ من الضمير في مكروا لا من قوله تعالى: {وَعِندَ الله مَكْرُهُمْ} أي مكروا مكرَهم والحالُ أن مكرهم لم يكن لتزولَ منه الجبال على أنها عبارةٌ عن آيات الله تعالى وشرائعِه ومعجزاتِه الظاهرة على أيدي الرسلِ السالفةِ عليهم السلام التي هي بمنزلة الجبالِ الراسياتِ في الرسوخ، وأما كونُها عبارةً عن أمر النبي صلى الله عليه وسلم وأمرِ القرآن العظيم كما قيل فلا مجال له إذ الماكرون هم المهلَكون لا الساكنون في مساكنهم من المخاطبين وإن خُصّ الخطاب بالمنذرين، وقيل: هي مخففةٌ من إنّ، والمعنى إنه كان مكرُهم ليزول منه ما هو كالجبال في الثبات مما ذكر في الآيات والشرائعِ والمعجزات والجملةُ كما هي حال من ضمير مكروا أي مكروا مكرَهم المعهودَ وإنّ الشأنَ كان مكرُهم لإزالة الآياتِ والشرائعِ على أنه لم يكن يصحّ أن يكون منهم مكرٌ كذلك، وكان شأنُ الآياتِ والشرائعِ مانعاً من مباشرة المكرِ لإزالته، وقد قرأ الكسائي: {لَتزولُ} بفتح اللام على أنها الفارقة، والمعنى تعظيمُ مكرِهم فالجملةُ حالٌ من قوله تعالى: {وَعِندَ الله مَكْرُهُمْ} أي عنده تعالى جزاءُ مكرهم أو المكرُ بهم والحال أن مكرهم بحيث تزول منه الجبالُ أي في غاية الشدة، وقرئ بالفتح والنصب على لغة من يفتح لام كي وقرئ {وإن كاد مكرهم} هذا هو الذي يقتضيه النظمُ الكريم وينساق إليه الطبعُ السليم.
وقد قيل إن الضمير في مكروا للمنذَرين والمرادُ بمكرهم ما أفاده قوله عز وجل: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ} الآية، وغيرُه من أنواع مكرهم برسول الله صلى الله عليه وسلم، ولعل الوجهَ حينئذ أن يكون قوله تعالى: {وَقَدْ مَكَرُواْ} الخ، حالاً من القول المقدر أي فيقال لهم ما يقال والحالُ أنهم مع ما فعلوا من الإقسام المذكورِ، مع ما ينافيه من السكون في مساكن المهلَكين وتبيّن أحوالُهم وضرْبُ الأمثال قد مكروا مكرَهم العظيم أي لم يكن الصادر عنهم مجردَ الإقسام الذي وُبِّخوا به بل اجترؤا على مثل هذه العظيمة، وقوله تعالى: {وَعِندَ الله مَكْرُهُمْ} حالٌ من ضمير مكروا حسبما ذكرنا من قبل، وقوله تعالى: {وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الجبال} مسوقٌ لبيان عدم تفاوتِ الحال في تحقيق الجزاءِ بين كون مكرِهم قوياً أو ضعيفاً كما مر هناك وعلى تقدير كون إنْ نافيةً فهو حال من ضمير مكروا، والجبالُ عبارةٌ عن أمر النبي صلى الله عليه وسلم أي وقد مكروا، والحالُ أن مكرهم ما كان لتزول منه هاتيك الشرائعُ والآياتُ التي هي في القوة كالجبال، وعلى تقدير كونها مخففةً من الثقيلة واللامُ مكسورةٌ يكون حالاً منه أيضاً على معنى أن ذلك المكرَ العظيم منهم كان لهذا الغرض، على معنى أنه لم يكن يصح أن يكون منهم مكرٌ كذلك المكر لِما أن شأنَ الشرائعِ أعظم من أن يمكُرَ بها ماكرٌ، وعلى تقدير فتح اللام فهو حالٌ من قوله تعالى: {وَعِندَ الله مَكْرُهُمْ} كما ذكرنا من قبل فليُتأمل.


{فَلاَ تَحْسَبَنَّ الله مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ} لم يرَدْ به والله سبحانه أعلم ما وعده بقوله تعالى: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا} الآية، وقولِه: {كَتَبَ الله لاَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى} كما قيل فإنه لا اختصاصَ له بالتعذيب لا سيما الأخرويُّ، بل ما سلف آنفاً من وعده بتعذيب الظالمين بقوله تعالى: {إِنَّمَا يُؤَخّرُهُمْ} الآية، كما يُفصح عنه الفاءُ الداخلة على النهي الذي أريد به تثبيتُه عليه الصلاة والسلام على ما كان عليه من الثقة بالله تعالى والتيقّن بإنجاز وعدِه المذكور المقرونِ بالأمر بإنذارهم يوم إتيانِ العذاب المتضمِّنِ لذكر تعذيبِ الأممِ السالفة، بسبب كفرِهم وعصيانِهم رسلَهم بعد ما وعدهم بذلك كما فُصّلت قصةُ كل منهم في القرآن العظيم، فكأنه قيل: وإذ قد وعدناك بعذاب الظالمين يوم القيامة، وأخبرناك بما يلقَوْنه من الشدائد، وبما يسألونه من الرد إلى الدنيا، وبما أجَبْناهم به وقرَعناهم بعدم تأملِهم في أحوال من سبَقهم من الأمم الذين أهلكناهم بظلمهم بعد ما وعدنا رسلَهم بإهلاكهم، فدُمْ على ما كنت عليه من اليقين بعدم إخلافِنا رسلَنا وعدَنا {أَنَّ الله عَزِيزٌ} غالبٌ لا يماكَر وقادرٌ لا يقادَر {ذُو انتقام} لأوليائه من أعدائه، والجملةُ تعليلٌ للنهي المذكور وتذييلٌ له، وحيث كان الوعدُ عبارةً عما ذكرنا من تعذيبهم خاصة لم يذيَّل بأن يقال: إن الله لا يخلف الميعاد، بل تعرض لوصف العزة والانتقامِ المُشعِرَين بذلك، والمرادُ بالانتقام ما أشير إليه بالفعل وعبّر عنه بالمكر.

3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10